
ماري اينسورث، عالمة نفس تنموية أمريكية-كندية، لها تأثير كبير في مجال علم النفس من خلال عملها الرائد في نظرية التعلق (Attachment theory)، وتجربتها الشهيرة تجربة الموقف الغريب. قدمت مساهماتها رؤى عميقة في الروابط العاطفية بين الأطفال والوالدين، وطورت بالتالي فهمنا لتطور ونمو الطفل وأثر علمها كذلك على العديد من الممارسات العلاجية.
تستعرض هذه المقالة حياة أينسوورث، أبحاثها ونظرياتها الأساسية، والتأثير الدائم لعملها على علم النفس.
حياتها المبكرة ومسيرتها الأكاديمية
وُلدت ماري دنسيمور سالتر اينسورث في 1 ديسمبر 1913 في جليندال، ولاية أوهايو الأمريكية. أظهرت اهتمامًا مبكرًا بعلم النفس، وتابعت لاحقاً إهتمامها هذا بشكل أكاديمي، حيث حصلت على درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه من جامعة تورنتو في كندا. خلال دراساتها العليا، تأثرت بأعمال وليام بلاتز، الذي شكلت نظريته في الأمان (security theory) الأساس لأبحاثها المستقبلية حول التعلق (Attachment theory).
خدمتها في الجيش ومسيرتها الأكاديمية بعد الحرب
بعد حصولها على الدكتوراه في عام 1939، انضمت أينسوورث إلى فيلق النساء التابع للجيش الكندي خلال الحرب العالمية الثانية، حيث عملت كطبيبة نفسية. بعد الحرب، عادت إلى العمل الأكاديمي في جامعة تورنتو، وفي عام 1950 تزوجت من ليونارد أينسوورث، جعلها هذا الزواج تنتقل للعيش في لندن، حيث تعاونت هناك مع جون بولبي في عيادة تسمى تافيستوك. هذا التعاون كان البداية لأبحاثها الواسعة حول التعلق.
أبحاث ونظريات ماري إينسورث في لندن
في لندن، عملت أينسوورث عن كثب مع جون بولبي، شخصية رائدة في نظرية التعلق. ركز عمل بولبي على آثار الحرمان الأمومي وأهمية العلاقة بين الأم والطفل في التطور النفسي المبكر للأطفال. مهارات أينسوورث التجريبية وقوة الملاحظة لديها تكاملت مع النهج النظري لبولبي، مما أدى إلى تعاون مثمر، ونتائج نظرية ذات أهمية.
أجرى الإثنان في لندن أبحاثًا واسعة حول آثار الفراق والفقدان على الأطفال، والتي توجت بعمل بولبي الأساسي كتابه: “التعلق والفقدان”. كانت مساهمات أينسوورث في هذا البحث كبيرة، خاصة في تطوير المنهجيات التجريبية لدراسة التعلق.
تجربة الموقف الغريب: اختراق في أبحاث التعلق
إن تطوير ماري اينسورث لتجربة الموقف الغريب في الستينيات من القرن الماضي كان تحولاً في دراسة التعلق.
ما هي تجربة الموقف الغريب؟
تجربة الموقف الغريب هي عبارةٌ عن دراسةِ ملاحِظة مُنظمةٍ تهدف إلى تقييم جودة التعلق بين الرضع وأقرب من يقوم على رعايتهم (الأب او الأم). يتضمن هذا الإجراء سلسلة من ثماني حلقات حيث يتعرض الرضيع لمواقف انفصال واجتماع مع راعيه، وكذلك الإجتماع مع شخص غريب. هذه السلسلسة مصممة لإستنباط سلوكيات التعلق وقياس استجابات الرضيع للتوتر والراحة.
تصنيف أنماط التعلق
ما هي أنماط التعلق؟
حددت تجربة الموقف الغريب أربعة أنماط رئيسية للتعلق:
- التعلق الآمن (Secure Attachment): الأطفال المتعلقين بأمان يستخدمون راعيهم كقاعدة آمنة لاستكشاف البيئة. يظهرون ضيقًا عند مغادرة مقدم الرعاية ويُهدَّؤون بسهولة عند عودته.
- التعلق التجنبي (Insecure-Avoidant Attachment): الأطفال المتعلقين بشكل غير آمن يظهرون القليل من الضيق عند الانفصال ويتجنبون القائم على الرعاية بهم عند عودته. لا يشعرون أنهم بحاجة لمقدم الرعاية وقد يتجاهلون وجوده.
- التعلق المقاوم (Insecure-Resistant Attachment): الأطفال المتعلقين بشكل غير آمن يظهرون ضيقًا شديدًا عند الانفصال عن مقدم الرعاية ويعرضون سلوكيات متناقضة عند الاجتماع، يسعون للراحة ولكنهم أيضًا يقاومونها، وغالبًا ما يبدون الغضب والإحباط ومشاعر متناقضة أخرى.
- التعلق غير المنظم (Disorganized Attachment): التعلق غير المنظم يتميز بسلوكيات غير متسقة ومربكة. قد يظهر الأطفال متحيرين أو مشوشين أو يعرضون سلوكيات متناقضة، مثل الاقتراب من مقدم الرعاية مع النظر بعيدًا.
النتائج النظرية لأنماط التعلق
قدم وصف أينسوورث لأنماط التعلق إطارًا لفهم ديناميكيات علاقة مقدم الرعاية والرضيع وأثرها على التطور العاطفي والاجتماعي. أثبت هذه التجربة أن جودة التجارب التعلقية المبكرة تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل قدرة الفرد على تكوين العلاقات، وتنظيم العواطف، وتطوير الشعور بالقيمة الذاتية.
التعلق الآمن: الأطفال المتعلقون بأمان يكونون أكثر احتمالاً لتطوير مهارات اجتماعية إيجابية، وثقة ذاتية أعلى، وتنظيم عاطفي أفضل. يميلون إلى تشكيل علاقات صحية في مرحلة البلوغ ويظهرون مرونة أكبر في مواجهة التحديات.
التعلق غير الآمن: أنماط التعلق غير الآمن، بما في ذلك التعلق التجنبي والمقاوم، ترتبط بصعوبات في تطوير مهارات اجتماعية وعاطفية، وقد تؤدي إلى مشاكل في العلاقات والتكيف العاطفي في المستقبل.
يذهب بعض الباحثين النفسيين إلى أن إمكانية دوام أو إنتهاء علاقة زوجية (الطلاق) يمكن توقعها بمعرفة نمط التعلق لكل من الزوجين بشكل أكثر دقة من معرفة تفضيلات كل منهما في الآخر أو ما يزعجهما.
تأثير أبحاث ماري إينسورث على علم النفس
كان لأبحاث أينسوورث تأثير بعيد المدى على مجالات متعددة داخل علم النفس، بما في ذلك علم النفس التنموي، وعلم النفس الإكلينيكي، وعلم النفس التربوي. أثرت أعمالها حول نظرية التعلق على فهم العلاقة بين الوالدين والطفل، وتطوير المهارات الاجتماعية والعاطفية، والآثار طويلة الأمد للتعلق في الطفولة على العلاقات البالغة لاحقاً.
- علم النفس التنموي: كانت نظرية التعلق لأينسوورث أساسية في فهم كيفية تشكيل العلاقات المبكرة لتطور الفرد. الأطفال المتعلقون بأمان أكثر احتمالاً لتطوير مهارات اجتماعية وعاطفية صحية، في حين أن التعلق غير الآمن يمكن أن يؤدي إلى صعوبات لاحقة في هذه النواحي.
- علم النفس الإكلينيكي: أثرت نتائج أينسوورث على الممارسات العلاجية، خاصة في فهم ومعالجة اضطرابات التعلق. يستخدم المعالجون نظرية التعلق لمعالجة القضايا الناجمة عن مشاكل العلاقات المبكرة، مما يساعد العملاء على بناء علاقات أكثر صحة وديمومة، وكذلك تحسين التنظيم العاطفي.
- علم النفس التربوي: يستخدم التربويون وأخصائيو تطوير الطفل نظرية التعلق لإنشاء بيئات تعليمية داعمة. مع الاعتراف بأهمية التعلق الآمن، تسعى المدارس ومراكز رعاية الأطفال إلى بناء علاقات قوية وإيجابية بين الأطفال والوالدين.
إنتقادات
على الرغم من أن مساهمات أينسوورث في علم النفس معترف بها على نطاق واسع، إلا أن عملها واجه بعض الإنتقادات والقيود. يجادل النقاد بأن تجربة الموقف الغريب قد لا تعكس بالكامل تعقيدات سلوكيات التعلق، خاصة عبر الثقافات المختلفة. كذلك قولهم أن إعتماد التجربة على حلقات ملاحظة قصيرة قد لا يعكس سلوكيات التعلق النموذجية للطفل في البيئات اليومية.
بالإضافة إلى ذلك، دعا بعض الباحثين إلى فهم أكثر دقة للتعلق، يأخذ في الاعتبار عوامل مثل المزاج، وديناميكيات الأسرة، والتأثيرات الاجتماعية الأوسع. على الرغم من هذه الانتقادات، يظل عمل أينسوورث حجر الزاوية في نظرية التعلق ويستمر في إلهام البحث والممارسة، وهو موضوع ذو شهرة شعبية في هذه الفترة بالذات.
إرثها
ترك عمل ماري أينسوورث الرائد في مجال التعلق أثرًا لا يمحى على علم النفس. قدمت مساهماتها رؤى لا تقدر بثمن حول أهمية العلاقات المبكرة وآثارها الطويلة الأمد على التطور النفسي. يستمر إرث أينسوورث من خلال التطبيق المستمر وتوسيع نظرية التعلق في مختلف مجالات علم النفس وما وراءها.
ملخص
تأثير ماري أينسوورث على علم النفس عميق ودائم. لقد غيرت أبحاثها المبتكرة حول التعلق فهمنا لتطور الطفل وأهمية الروابط العاطفية المبكرة. لم تعزز أعمال أينسوورث المعرفة العلمية فحسب، بل شكلت أيضًا الممارسات العلاجية والأساليب التعليمية، مما يضمن استمرار إرثها في التأثير على مجال علم النفس لأجيال قادمة.
المراجع:
- Ainsworth, M. D. S., Blehar, M. C., Waters, E., & Wall, S. (1978). Patterns of Attachment: A Psychological Study of the Strange Situation. Hillsdale, NJ: Erlbaum.
- Bowlby, J. (1969). Attachment and Loss: Vol. 1. Attachment. New York: Basic Books.
- Bretherton, I. (1992). The Origins of Attachment Theory: John Bowlby and Mary Ainsworth. Developmental Psychology, 28(5), 759-775.
- Main, M., & Solomon, J. (1986). Discovery of an Insecure-Disorganized/Disoriented Attachment Pattern. In T. B. Brazelton & M. W. Yogman (Eds.), Affective Development in Infancy (pp. 95-124). Norwood, NJ: Ablex.