علماء النفس

كارل روجرز – السيرة الذاتية وإسهاماته في علم النفس

حياة كارل روجرز ونظريته

من أهم علماء النفس والذي بالإضافة لمساهماته في طرق العلاج النفسي، ترك تأثيراً مهما في مجال التعليم أيضاً. ورشح لاحقاً لجائزة نوبل للسلام. فيما يلي تناولٌ لسيرة كارل روجرس، نظريته، وإنجازاته المهمة في علم النفس والعلاج النفسي.

يُعد كارل روجرز (Carl Rogers) شخصية بارزة في مجال علم النفس، وهو معروف بمساهماته الثورية في علم النفس الإنساني (Humanistic psychology) والعلاج النفسي. ولد في 8 يناير 1902، وهو أمريكي-كندي الأصل.

لقد أثر عمل روجرس بشكل كبير على طرق العناية بالمرضى النفسيين، حيث كان يوكد في تلك الأساليب على فهم ومخاطبة الإمكانات الكامنة داخل الفرد نفسه.

كارل روجرس (1902-1987): هو عالم نفس أمريكي مؤثر معروف بأعماله الرائدة في علم النفس الإنساني. أكد على أهمية تحقيق الذات [self-actualization] ونهج العلاج المتمركز على الشخص [person-centered approach to therapy]. كان روجرز يؤمن بالإمكانات الفطرية للأفراد للنمو والتطوير تحت ظروف مثالية من التقبل والتعاطف.

كان كارل رانسوم روجرز الطفل الرابع من بين ستة أطفال في عائلة متدينة ومجتهدة. تميزت سنواته المبكرة بتعرضه لتربية صارمة، مما لعله أسفر عن نشوء أخلاقيات عمل قوية (Strong “work ethic”) وفضولاً عميقاً للعلم.

بدأ روجرز دراسة الزراعة في جامعة ويسكونسن، قد يكون هذا منعكساً من ميول عائلته الريفية. ومع ذلك حدث تحول جذري عندما حضر مؤتمرًا مسيحيًا في الصين في عام 1922، والذي أشعل اهتمامه بعلم النفس والسلوك البشري.

غير روجرز تخصصه إلى التاريخ قبل أن يقرر في النهاية متابعة علم النفس الإكلينيكي (Clinical psychology). حصل على درجة الدكتوراه من كلية المعلمين بجامعة كولومبيا في عام 1931، حيث تأثر هناك بعلماء نفس بارزين مثل جون ديوي. وضعت هذه المراحل من تعليمه الأساس لتطوير نظريته لاحقاً وكذلك تطبيقاته العملية في العلاج النفسي.

تشكلت مسيرة روجرز المهنية المبكرة من خلال عمله في جمعية روتشستر لمنع القسوة على الأطفال. هنا اكتسب روجرس خبرة مباشرة في التعامل مع الأطفال المضطربين وعائلاتهم، والذي أثر لاحقاً بشكل كبير على آرائه حول العلاج والسلوك البشري.

عززت ملاحظاته خلال هذه الفترة اعتقاده في الخير المتأصل (Inherent goodness) والإمكانات للنمو داخل كل فرد، وهو اعتقاد أصبح لاحقًا حجر الزاوية في إطاره النظري.

يشتهر كارل روجرز بتطوير العلاج المتمركز حول الشخص (Person-Centered Therapy)، والمعروف أيضًا باسم العلاج المتمركز حول العميل (Client-Centered Therapy). يمثل هذا النهج تحولًا كبيرًا عن الأساليب الأكثر توجيهًا التي كانت سائدة في أوائل القرن العشرين، مثل التحليل النفسي لسيغموند فرويد والسلوكية لسكينر. أكد روجرز على أهمية دور المعالج في توفير بيئة داعمة تسهل اكتشاف الذات وتقبلها لدى العميل.

يرى روجرس أن هناك ظروفاً معينة يجب على المعالجين النفسيين الإحاطة بها أثناء عملهم مع العملاء، إليك أهما:

  • التعاطف (Empathy):  

قدرة المعالج على فهم ومشاركة مشاعر العميل، مما يخلق اتصالًا عميقًا معه. يتضمن التعاطف الاستماع النشط للعميل وعكس أفكاره ومشاعره بطريقة تظهر فهمًا وقلقًا حقيقيين.

  • التقدير غير المشروط  (Unconditional Positive Regard):

تقبل ودعم المعالج للعميل دون حكم، مما يخلق مساحة آمنة للاستكشاف الصادق للذات. يعني هذا تقدير العميل كشخص بغض النظر عن أفكاره، مشاعره، أو سلوكياته.

  • التطابق : (Congruence)

التزام الجدية التامة من قبل المعالج بشكل يضمن أن سلوكه الخارجي يتماشى مع مشاعره وأفكاره الداخلية. تساعد هذه الأصالة في بناء ثقة وعلاقة علاجية بين المعالج والعميل.

جانب رئيسي آخر من نظرية روجرس هو مفهوم الذات (Self-Concept)، الذي عرّفه كمنظومة من التصورات والمعتقدات المنظمة والمتسقة حول الذات. يلعب مفهوم الذات دورًا حاسمًا في كيفية إدراك الأفراد لمحيطهم والتفاعل معه.

حسب روجرس، الشخص المتكيف والمستقر تماماً يمتلك مفهومًا ذاتيًا يتوافق مع تجاربه، مما يعني أن هناك قليل من التفاوت بين صورته الذاتية والواقع.

ومع ذلك، عندما يتلقى الأفراد قبولًا إيجابيًا مشروطًا من الأشخاص المهمين في حياتهم -بمعنى أنهم يُقَدرون فقط عندما يلبون شروطًا أو توقعات معينة- فقد يطورون ما أسماه روجرس “شروط القيمة” (Conditions of worth).

هذه الشروط يمكن أن تؤدي إلى عدم التوافق بين مفهومهم عن ذاتهم وتجاربهم ومعرفتهم لواقعهم، مما ينتج مشاعر القلق والشك الذاتي (Self-doubt).

كان روجرز يؤمن بأن العلاج يجب أن يركز على مساعدة العملاء في تحقيق توافق أكبر من خلال توفير بيئة من القبول غير المشروط والتقدير في هكذا حالات بشكل خاص، أي القيام بعكس ما سبب تلك المشاعر من الشك الذاتي والقلق.

إن العمل الأشهر لكارل روجرس هو كتاب “العلاج المتمركز حول العميل: ممارسته الحالية، تداعياته ونظريته” (Client-Centered Therapy: Its Current Practice, Implications, and Theory)، الذي نُشر في عام 1951، ووضع فيه الأساس لنَهجه وأثر على عدد لا يُحصى من الممارسين.

هذا الكتاب حدد مبادئ العلاج المتمركز حول الشخص وقدم إرشادات عملية للمعالجين حول كيفية تطبيق هذه المبادئ في عملهم مع العملاء. أكد روجرز كما ذكرنا على أهمية خلق بيئة علاجية تتميز بالتعاطف والقبول غير المشروط والتوافق، مُجادلاً بأن هذه الشروط ضرورية للعلاج الفعال.

أما كتابه الصادر في عام 1961، “حول أن تصبح شخصًا” (On Becoming a Person)، أوضح نظرياته بشكل أكبر ويُعتبر كلاسيكياً في الأدبيات النفسية. قدم روجرز في هذا الكتاب مجموعة من المقالات والمحاضرات التي استكشفت طبيعة النمو الشخصي وتحقيق الذات.

طرح في الكتاب أفكاره حول العملية العلاجية، دور المعالج، والعوامل التي تُساهم في الرفاه النفسي. “حول أن تصبح شخصًا” قد تم الاستشهاد به على نطاق واسع ولا يزال يُعتبر من الكتب الواجب قرائتها لدارسي علم النفس.

خلال مسيرته المهنية، شغل روجرز مناصب أكاديمية مرموقة، بما في ذلك أستاذية في جامعة ولاية أوهايو، جامعة شيكاغو، وجامعة ويسكونسن. امتد تأثيره إلى ما بعد الأكاديمية من خلال عمله في معهد العلوم السلوكية الغربية ومركز دراسات الشخص، وعدد من المنظمات التي ساعد في تأسيسها لتعزيز نهجه الإنساني في علم النفس.

ساهم باعتباره أحد الشخصيات المؤسسة لعلم النفس الإنساني بشكل كبير في هذه “القوة الثالثة” في علم النفس، بجانب السلوكية والتحليل النفسي (الأولى والثانية). يؤكد علم النفس الإنساني على أهمية النمو الشخصي، تحقيق الذات، والخير المتأصل في الأفراد. أصبحت أفكار روجرز حول مفهوم الذات، النمو الشخصي، والعلاقة العلاجية جزءًا لا يتجزأ من هذه الحركة، مما أثر على الممارسات العلاجية والتعليمية المعاصرة.

إن تأكيد روجرز على التجربة الذاتية للفرد وأهمية العلاقة العلاجية قد وجد صدى لدى العديد من الممارسين الذين كانوا غير راضين عن النهج الأكثر ميكانيكية وحتمية في السلوكية والتحليل النفسي. ساعد عمله في تمهيد الطريق لتطوير علاجات إنسانية أخرى، مثل العلاج الجشطالتي (Gestalt therapy) والعلاج الوجودي (Existential therapy)، والتي تؤكد أيضًا على أهمية التجربة الشخصية والعلاقة العلاجية.

حصل روجرز على العديد من الجوائز والتكريمات طوال مسيرته المهنية، مما يعكس تأثيره العميق في علم النفس. حصل على جائزة المساهمة العلمية المتميزة من الجمعية النفسية الأمريكية في عام 1956 وجائزة المساهمة المهنية المتميزة في عام 1972.

في عام 1987، تم ترشيحه لجائزة نوبل للسلام، اعترافًا بجهوده في تطبيق مبادئه الإنسانية في مجال العلاج النفسي لتعزيز السلام والتفاهم على المستوى العالمي.

امتد تأثير روجرز إلى ما بعد العلاج النفسي ليشمل مجالات التعليم وتطوير المنظمات. حيث أنه رأى أن مبادئ العلاج المتمركز حول الشخص يمكن أن تُطبق لإنشاء بيئات تعليمية وتنظيمية أكثر فاعلية. في كتابه “حرية التعلم” (Freedom to Learn)، عرض روجرز رؤيته لمنهج متمركز حول الشخص في التعليم، مؤكدًا على أهمية خلق بيئة تعليمية داعمة وتعاطفية يشعر فيها الطلاب بالتقدير والدافع للتعلم.

هذا وكما عمل روجرز مع المنظمات المختلفة لتعزيز ممارسات إدارة أكثر ديمقراطية ومشاركة. اعتقد أنه عندما يُعامل الأفراد باحترام ويُمنحون الفرصة للمساهمة في عمليات صنع القرار يمكنهم أن يكونو أكثر إلتزاماً وتحفيزاً وإنتاجاً.

توفي كارل روجرز في 4 فبراير 1987، ولكن إرثه لا يزال قائمًا. أصبح نهجه المتمركز حول الشخص حجر الزاوية في العلاج النفسي الحديث، مؤثرًا ليس فقط في الممارسة السريرية بل أيضًا في التعليم، الرعاية الصحية، وتطوير المنظمات. لا تزال مبادئ روجرز حول التعاطف، القبول، والأصالة تتداول بشكل واسع في المؤسسات التعليمية والمؤسسات، وليس فقط في مجال علم النفس.

أثار عمل روجرز أبحاثًا مستمرة في مجال العلاج النفسي، مع العديد من الدراسات التي تستمر في استكشاف فعالية العلاج المتمركز حول الشخص والعوامل التي تسهم في النتائج العلاجية الإيجابية. يتجلى إرثه أيضًا في استمرار شعبية كتبه والأهمية المستمرة لأفكاره في المناقشات المعاصرة حول الصحة النفسية والرفاهية.

ملخص

تمثل حياة كارل روجرز وعمله تغييرًا في مجال علم النفس. لقد أحدث نهجه المتمركز حول الشخص ثورة في العلاج النفسي من خلال التأكيد على الإمكانات الكامنة داخل كل فرد وأهمية العلاقة العلاجية. من خلال كتاباته وأبحاثه ومساهماته المهنية، ترك روجرز بصمة لا تمحى في علم النفس، ملهمًا أجيالًا من المعالجين والعملاء للسعي نحو النمو الشخصي وتحقيق الذات.

  • Rogers, C. R. (1951). Client-Centered Therapy: Its Current Practice, Implications, and Theory. Boston: Houghton Mifflin.
  • Rogers, C. R. (1961). On Becoming a Person: A Therapist’s View of Psychotherapy. Boston: Houghton Mifflin.
  • American Psychological Association. (1956). Distinguished Scientific Contribution Award: Carl R. Rogers.
  • American Psychological Association. (1972). Distinguished Professional Contribution Award: Carl R. Rogers.
  • Wikipedia: General knowledge articles on Carl Rogers and related topics, which are typically under Creative Commons licenses that allow for reuse with attribution.
  • Image Credit: “Carl Ransom Rogers” by Unidentified (Life time: Unknown) – Wikimedia Commons. This work is licensed under the Creative Commons Attribution 4.0 International License.

محمد قحطان

A medical student, and a scientific-content writer who writes mostly in Arabic, mainly about Psychology, Psychiatry, Philosophy, and the liberal arts
زر الذهاب إلى الأعلى