مقدمة
إبراهام ماسلو (Abraham Maslow) (1908-1970) كان عالم نفس أمريكي رائد، أثرت إسهاماته بشكل كبير في حقول علم النفس المختلفة، خاصة من خلال تطويره لنظرية هرم الحاجات. تقدم هذه النظرية فهمًا متقدماً للمحفزات والإمكانيات البشرية.
تفترض نظرية هرم الحاجات أن الاحتياجات البشرية مرتبة بترتيب هرمي، تبدأ من الاحتياجات الفسيولوجية الأساسية وتنتهي بسعي إلى “تحقيق الذات”. ستجد في هذه المقالة غوصاً عميقاً في نظرية ماسلو وخلفيتها التاريخية، وتفاصيل عن كل من الاحتياجات المحددة في الهرم، كيفية تطبيقها بشكل عملي، وكذلك الإنتقادات التي تعرضت لها النظرية.
إبراهام ماسلو: حياته المبكرة وتعليمه
ولد إبراهام هارولد ماسلو في الأول من أبريل 1908 في بروكلين، نيويورك، لأبوين مهاجرين يهود-روس، كان الإبن الأكبر من سبعة أطفال، في عائلة تقدر التعليم والإنجاز الفكري على الرغم من ظروفها المتواضعة. كانت سنوات ماسلو الأولى مليئة بمشاعر العزلة والحزن، تجارب يُقال أنها أثرت فيما بعد عليه وكونت اهتمامه بفهم الإمكانيات البشرية والرفاهية (Human potential and well-being).
بدأ ماسلو تعليمه العالي في كلية مدينة نيويورك (CCNY) قبل أن ينتقل إلى جامعة ويسكونسن، حيث حصل على درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في علم النفس.
تحت إشراف هاري هارلو، المعروف بأبحاثه على القرود الريشيّة، تعزز أساس ماسلو الأكاديمي في علم النفس التجريبي. لكن اهتماماته تحولت سريعًا نحو فهم الدوافع البشرية والعوامل التي تدفع الأفراد نحو النمو الشخصي.
المسيرة الأكاديمية والإسهامات
شملت مسيرة ماسلو الأكاديمية وظائف تدريس في كلية بروكلين وجامعة براندايس، حيث عمل رئيسًا لقسم علم النفس. كان عمله وتفاعله خلال هذه الفترة مع زملائه البارزين مثل عالمة الأنثروبولوجيا روث بنيديكت وعالم النفس الجستالتي ماكس فرثايمر، قد أثرت في تفكيره وبحثه بشكل عميق.
في عام 1943، نشر ماسلو ورقةً بحثيةً بعنوان، “نظرية الدافع البشري”، مقدمًا مفهوم هرم الحاجات لأول مرة. وضع هذا البحث الأساس لأعماله لاحقًا، بما في ذلك كتابه الشهير “الدافع والشخصية” (1954)، الذي زاد من تفصيل عمق نظريته.
من هو إبراهام ماسلو؟
كان إبراهام ماسلو شخصية بارزة في علم النفس، إشتهر بنهجه الإنساني ونظريته الرائدة حول الدافع البشري. كان عمله مختلفاً عن المدارس الفكرية السائدة في ذلك الوقت – علم النفس التحليلي والسلوكية – من خلال التركيز على ما أسماه “علم النفس الإيجابي (Positive psychology)”، الذي يؤكد على الإمكانيات البشرية وقدرة الفرد على تحسين ذاته.
كان اهتمام ماسلو بعلم النفس متأصلاً بشكل عميق في تجاربه الشخصية وملاحظاته لسلوك الإنسان. حيث لم يَسع فقط إلى فهم الأمراض والاضطرابات التي كان يركز عليها كثيرون من علماء النفس في عصره فحسب، وإنما بحث بإهتمامٍ أكبر في الجوانب الإيجابية لطبيعة الإنسان والعوامل التي تسهم في حياة مليئة بالمعاني والرضا.
متى بدأ إبراهام ماسلو مسيرته المهنية؟
بدأت مسيرة ماسلو المهنية في علم النفس بشكل جدي في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات. بعد الحصول على شهادة الدكتوراه في علم النفس من جامعة ويسكونسن في عام 1934، شغل منصب تدريس في كلية بروكلين في عام 1937.
كان من خلال فترة عمله في كلية بروكلين حيث بدأ ماسلو في تطوير أفكاره حول الدوافع البشرية والسلوك، تأثرًا بالبيئة الفكرية التي كان فيها وتفاعلاته مع علماء آخرين.
اتخذت مسيرته منعطفًا هامًا في أوائل الأربعينيات عندما بدأ في صياغة ونشر أفكاره حول هرم الحاجات. كانت نشرة “نظرية الدافع البشري” في عام 1943 بمثابة بداية تأثير ماسلو في مجال علم النفس، ومن هنا أصبح معروفاً في المجال كعالم مبتكر وبارز.
.This file is licensed under the Creative Commons Attribution 2.0 Generic license
ما هو هرم ماسلو للحاجات؟
يُصوَّر تسلسل ماسلو الهرمي للإحتياجات عادةً كهرم يتألف من خمسة مستويات، يمثل كل منها فئة مختلفة من الاحتياجات البشرية. يدل ترتيب النموذج بشكل هرم على أن الأفراد يتحفزون لتحقيق الاحتياجات الأساسية قبل الانتقال إلى احتياجات على مستويات أعلى.
- الاحتياجات الفسيولوجية:
تتموضع في أساس الهرم، وهي الأكثر بساطة وأساسية للبقاء. تشمل هذه:
- الطعام
- الماء
- المأوى
- النوم
- التنفس
- الاستقرار الداخلي (Homeostasis).
يجب تلبية هذه الاحتياجات قبل التركيز على غيرها من الاحتياجات الموجودة مستويات أعلى. وفقًا لماسلو، يؤدي عدم سد هذه الاحتياجات إلى عدم الإستقرار الفسلجي والانشغال بالحصول على هذه الضروريات وغض النظر عما عداها.
- الاحتياجات الأمنية:
عندما تُرضى الاحتياجات الفسيولوجية، تصبح الاحتياجات الأمنية أكثر أهمية. تتضمن هذه الاحتياجات:
- الأمان الشخصي
- الأمن المالي
- الصحة والرفاهية
- الحماية من الحوادث والمرض.
البيئة المستقرة والآمنة ضرورية للأفراد للتقدم إلى المستوى التالي في الهرم.
- الاحتياجات الاجتماعية والانتماء:
بعد تحقيق الأمان، تبرز الاحتياجات الاجتماعية. الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته يسعى إلى:
- الصداقات
- الحميمية (intimacy)
- الأسرة
- المجاميع الاجتماعية
- الروابط المجتمعية.
تلبية هذه الاحتياجات ضروري “للصحة العاطفية” -كما يسميها البعض- والشعور بالانتماء. أكد ماسلو أن الإنسان يمتلك رغبة متأصلة في تكوين علاقات ذات معنى وعمق والحفاظ عليها، وعدّه أمرأ أساسياً للصحة النفسية.
- الاحتياجات التقديرية:
تنقسم الاحتياجات التقديرية إلى فئتين:
- الاحترام الذاتي (Self-esteem): الثقة والإنجاز والاحترام للنفس.
- الاحترام من الآخرين (Esteem from others): الملاحظة من المحيطين والمكانة الإجتماعية والتقدير من الآخرين. *(لا بد من ضبط هذه بالذات وإلا أصبحت “..Attention hor se” 🙂
يؤدي تحقيق الاحتياجات التقديرية إلى الشعور بالقيمة والإنجاز. وفقًا لماسلو، يعزز تحقيق هذه الاحتياجات الثقة بالنفس والشعور بالمساهمة، وهما أساسيان للنمو الشخصي والتطور المهني.
- الاحتياجات التحقيقية الذاتية (أو تحقيق الذات Self-actualization):
في قمة الهرم تكمن الاحتياجات التحقيقية الذاتية، التي تشمل تحقيق الإمكانات الشخصية والسعي للنمو الشخصي. تشمل سمات التحقيق الذاتي:
- الإبداع (Creativity)
- حل المشاكل (Problem-solving)
- الأصالة (Authenticity)
- السعي وراء المواهب الداخلية
- تحقيق الأهداف الشخصية
التحقيق الذاتي هو أن يصبح الإنسان أكثر ما يمكن أن يكون، وتختلف تفاصيل ذلك من شخص إلى آخر. يعتقد ماسلو أن نسبة الصغيرة فقط من الأفراد تصل إلى هذا المستوى من الاحتياجات، الذي يمثل تحقيق الإمكانات الحقيقية للفرد (One’s true potential).
أعماله اللاحقة وإرثه في علم النفس التحليلي
توسع عمل ماسلو فيما بعد وتعمق في تفسير مفهوم تحقيق الذات، وساهم في تطوير علم النفس الإنساني، وهو النظرية التي تؤكد على وجود الخير المتأصل في الناس ورغبتهم الطبيعية في تطوير ذاتهم.
تركز هذه النظرية، المعروفة أيضًا باسم “القوة الثالثة” في علم النفس (بعد علم النفس التحليلي والسلوكي) -الأولى والثانية- على التجارب الشخصية وقدرة الفرد على النمو الذاتي الموجه.
ما وراء تحقيق الذات: التجاوز (Transcendence)
في سنواته اللاحقة، قدم ماسلو مفهوم التجاوز الذاتي (Self-transcendence)، الذي يمتد خارج نطاق تحقيق الذات. يتضمن التجاوز الذاتي السعي وراء أهداف وتجارب تتجاوز الذات، مثل الإيثار، والصحوة الروحية، والبحث عن المعنى. تبرز هذا الإضافة اعتقاد ماسلو بأن الأفراد لديهم رغبة فطرية في الاتصال بشيء أكبر منهم.
تطبيقات نظرية ماسلو
لهرم الحاجات لماسلو تطبيقات عديدة عبر مختلف المجالات، بما في ذلك علم النفس والتعليم والأعمال التجارية والرعاية الصحية. فيما يلي مناقشة لبعض منها.
- علم النفس السريري (Clinical psychology)
في علم النفس السريري، يمكن أن يساعد فهم موقع الفرد ضمن الهرم في تشخيص وعلاج اضطرابات الصحة النفسية. يمكن للمعالجين تكييف الإجراءات لمعالجة الاحتياجات غير الملباة، مما يعزز الرفاه العام والصحة النفسية بشكل عام، ومن فاعلية وافئدة العلاج النفسي بشكل خاص.
- التعليم
من المفيد أن يستخدم المعلمون نظرية ماسلو لخلق بيئات تعلم مشجعة وهادفة. من خلال ضمان تلبية احتياجات الطلاب الأساسية يمكن للمعلمين توفير جو مناسب للتعلم والتنمية الشخصية. هذا النهج يساعد الطلاب على تحقيق مستويات أعلى من النجاح الأكاديمي والنمو الشخصي.
- الأعمال وإدارة المؤسسات
في المجال التجاري، يُطبق هرم الحاجات لتعزيز دافعية الموظفين ورضاهم في العمل. يمكن لأصحاب العمل إنشاء سياسات وبيئات عمل تعالج مختلف مستويات الاحتياجات، بدءًا من الرواتب التنافسية والأمان الوظيفي إلى الفرص للتفاعل الاجتماعي والتطوير المهني. يمكن أن يحسن هذا النهج الشامل الإنتاجية واستمرارية الموظفين.
- الرعاية الصحية
يمكن أن يستخدم الممتهنون في مجال الرعاية الصحية نظرية ماسلو لفهم سلوكيات المرضى ودوافعهم. من خلال فهم أهمية الاحتياجات الصحية الأساسية وتوفير بيئة مناسبة لضمانها يمكن للممارسين تحسين نتائج المرضى (Patient’s outcomes) وتعزيز الصحة العامة.
الانتقادات وعيوب النظرية
على الرغم من تأثيرها الواسع، واجهت نظرية ماسلو عدة انتقادات.
- الانحياز الثقافي
يُحتج على أن الهرم يعكس قيمًا غربية وقد لا ينطبق عالميًا عبر الثقافات المختلفة. يمكن أن يكون التركيز على الفردية وتحقيق الذات غير متناسب مع المجتمعات التعاونية التي تولي الأولوية للمجتمع والترابط.
- الصرامة
تشير النظرية إلى ترتيب ثابت للحاجات، ولكن السيناريوهات الواقعية تظهر أن الاحتياجات يمكن أن تُسعى إليها متزامنة أو خارج التسلسل. على سبيل المثال قد يسعى الأفراد إلى الاحترام أو الانتماء حتى عندما لا تتم تلبية احتياجاتهم الأساسية بالكامل.
- الدعم التجريبي (Empirical support)
يزعم بعض الباحثين أن هناك دلائل غير كافية لدعم الطبيعة التسلسلية والهرمية المقترحة من قبل ماسلو. حيث أن النظرية على الرغم من كونها توفر إطاراً مفيداً، يمكن أن يتفاوت تطبيقها اعتمادًا على الاختلافات الفردية والعوامل السياقية.
ملخص
لا يزال هرم الحاجات لماسلو مفهومًا مهماً في علم النفس، يوفر رؤية قيمة وفريدة حول الدافع والسلوك البشري. من خلال دراسة ما يهم البشر بشكل عام وما يهدفون إليه من حاجات نفسية (وهو ما يحصل عند دراستنا هرم ماسلو للحاجات) يمكنناً تعميق فهمنا للنفس البشرية بشكل عام، وعلم النفس الإنساني بشكل خاص (Humanistic psychology).
كذلك يمكن أن يساعد فهم وتطبيق نظرية ماسلو الأفراد والمنظمات على خلق بيئات تعزز الرفاهية والرضا وتحقيق الإحتياجات النفسية البشرية.
المراجع:
- Maslow, A. H. (1943). A Theory of Human Motivation. Psychological Review, 50(4), 370-396. You can read the full article through the Internet Archive here (Internet Archive).
- Maslow, A. H. (1954). Motivation and Personality. Harper & Row