فروع علم النفس

علم النفس السريري (الإكلينيكي) وأساليبه

علم النفس السريري

علم النفس السريري أو الإكلينيكي هو فرع من فروع علم النفس يركز على تشخيص وعلاج الاضطرابات النفسية والعاطفية والسلوكية. يدمج هذا المجال بين علم النفس وعلاج المشكلات البشرية المعقدة، مما يجعله جزءًا حيويًا من نواحي الدراسة والممارسة داخل مجال علم النفس.

يمكن تتبع جذور علم النفس السريري إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. بدأ هذا المجال يتشكل من خلال أعمال رواد علم النفس في ذلك الوقت مثل فيلهلم فونت، الذي أسس أول مختبر لعلم النفس في عام 1879، وسيغموند فرويد، الذي أثرت نظريته التحليلية النفسية بشكل عميق في التطور المبكر لعلم النفس السريري.

واحد من المعالم الرئيسية الأولى في علم النفس السريري كان إنشاء أول عيادة نفسية من قبل لايتنر ويتيمر (Lightner Witmer) في عام 1896 في جامعة بنسلفانيا. يُعتبر ويتيمر الأب الروحي لعلم النفس السريري، وقد قدمت عيادته نموذجًا لدمج البحث النفسي مع الممارسة السريرية.

يستخدم ممارسو علم النفس السريري مجموعة متنوعة من الطرق الممنهجة لتقييم (evaluation) ومعالجة الحالات الصحية النفسية. تشمل هذه النهج عدداً من الاختبارات النفسية، وكذلك مقابلات سريرية والملاحظات السلوكية والتداخلات العلاجية.

  1. الاختبارات النفسية (Psychological Testing):
    تشمل الاختبارات النفسية استخدام اختبارات معيارية لتقييم القدرات المعرفية، والسمات الشخصية، والوظائف العاطفية.
    يتم إستخدام اختبارات مثل مقياس وكسلر لذكاء البالغين (Wechsler Adult Intelligence Scale – WAIS) وقائمة الشخصية المتعددة الأوجه لولاية مينيسوتا (Minnesota Multiphasic Personality Inventory – MMPI) بشكل شائع في السياقات السريرية لتشخيص حالات مثل الاكتئاب، والقلق، والفصام.
  2. المقابلات السريرية (Clinical Interviews):
    تُعد المقابلات السريرية أداة أساسية في علم النفس السريري. تُمكّن علماء النفس من جمع معلومات مفصلة حول التاريخ الصحي للمريض، وأعراضه، ومدى سلامة وإستقرار وظائفه الحالية. توفر المقابلات المهيكلة، مثل المقابلة السريرية المهيكلة للـ DSM-5 (Structured Clinical Interview for DSM-5 – SCID)، أسلوباً منهجيًا لتشخيص الاضطرابات النفسية.
  3. الملاحظة السلوكية (Behavioral Observation):
    تتضمن الملاحظة السلوكية مراقبة وتسجيل السلوكيات بشكل منتظم في بيئة طبيعية أو متحكم بها. تُعد هذه الطريقة مفيدة بشكل خاص في تشخيص الاضطرابات السلوكية لدى الأطفال، مثل اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (Attention Deficit Hyperactivity Disorder – ADHD) واضطراب طيف التوحد (Autism Spectrum Disorder – ASD).
  4. التدخلات العلاجية (Therapeutic Interventions):
    يستخدم علماء النفس السريري مجموعة من التدخلات العلاجية – بإستثناء الأدوية، إذ يتم وصفها بواسطة الأطباء النفسيين حصراً – لعلاج المشكلات الصحية النفسية.
    تشمل هذه التدخلات العلاج السلوكي المعرفي (Cognitive-Behavioral Therapy – CBT)، والعلاج النفسي الديناميكي (Psychodynamic Therapy)، والعلاج الإنساني (Humanistic Therapy)، والعلاج الأسري (Family Therapy). لكل نهج من هذه الأساليب أسسه النظرية وهو مناسب لأنواع مختلفة من المشكلات ومجموعات المرضى.

وفي ما يلي شرح مختصر لكل نوع:


يُعد العلاج السلوكي المعرفي واحدًا من أكثر أشكال العلاج النفسي استخدامًا ودعمًا بالأدلة والبحوث. يستند إلى فكرة أن الأنماط الفكرية السلبية والخاطئة تسهم في الضيق العاطفي والمشكلات السلوكية.
يهدف العلاج السلوكي المعرفي من خلال مساعدة المرضى في تحديد وتغيير هذه الأنماط الفكرية إلى تخفيف الأعراض دون اللجوء إلى إستخدام الأدوية.  
يُعتبر ألبرت إليس (Albert Ellis) وآرون بيك (Aaron Beck) شخصيتين رئيسيتين في تطوير العلاج السلوكي المعرفي. قدم علاج إليس السلوكي العقلاني الانفعالي (Rational Emotive Behavior Therapy – REBT) وعلاج بيك المعرفي الأساس والدعم العلمي للعلاج السلوكي المعرفي الحديث، الذي يدمج بين تقنيات معرفية وسلوكية.

يرتكز العلاج النفسي الديناميكي على نظرية فرويد في التحليل النفسي، ويهدف إلى الكشف عن الصراعات اللاواعية واستكشاف تأثير التجارب الطفولية المبكرة على السلوك الحالي. غالبًا ما يتطلب هذا النهج علاجًا طويل الأمد ويهدف إلى إخراج الأفكار والمشاعر اللاواعية إلى الوعي، وبالتالي حصول فهم لطبيعة تلك المشاعر، وبالتالي تخفيف الضيق النفسي.

تم تطوير العلاج الإنساني من قبل كارل روجرز (Carl Rogers) وأبراهام ماسلو (Abraham Maslow)، ويؤكد على أهمية تحقيق الذات والنمو الشخصي. يتمحور هذا النهج حول العميل، مما يعني أن المعالج يوفر بيئة داعمة تمكن العملاء (المراجعين) من استكشاف مشاعرهم وتحقيق فهم أكبر لذاتهم وبالتالي تقبلها.


يتناول العلاج الأسري القضايا النفسية في سياق ديناميكيات الأسرة. يرى هذا النهج أن المشكلات تنشأ من العلاقات غير الناجحة، ويهدف إلى تحسين التواصل الأسري، وحل النزاعات، وتقوية الروابط الأسرية.
يُعتبر سلفادور مينوشين (Salvador Minuchin)، الذي طور العلاج الأسري البنيوي (Structural Family Therapy)، وموراي بوين (Murray Bowen)، الذي أدخل نظرية الأنظمة (Systems Theory) في العلاج الأسري، من الشخصيات الرئيسية في هذا المجال.

    لا يزال علم النفس السريري مستمراً في التطور، خصوصاً في مجال اتصاله بعلوم الأعصاب، والتكنولوجيا، والممارسة المستندة إلى الأدلة. تتضمن بعض الاتجاهات والابتكارات الحالية في هذا المجال ما يلي:

    • دمج علم الأعصاب مع علم النفس الإكلينيكي (Integration of Neuroscience):
      أدى التقدم في علوم الأعصاب إلى تعميق فهمنا للأسس البيولوجية للاضطرابات النفسية. إن استخدام علماء النفس السريري لتقنيات تصوير الأعصاب لا يزال في إزدياد، مثل إستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (functional Magnetic Resonance Imaging – fMRI)، لدراسة وظائف الدماغ وتوجيه استراتيجيات العلاج.
    • علم النفس عن بُعد (Telepsychology):
      أدى ظهور التكنولوجيا الرقمية إلى نمو ما يسمى ب “علم النفس عن بُعد”، والذي يتضمن تقديم الخدمات النفسية عن بُعد من خلال مكالمات الفيديو أو المكالمات الهاتفية أو المنصات عبر الإنترنت. وسّع علم النفس عن بُعد من إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية النفسية، لا سيما للأفراد في المناطق النائية أو المحرومة.
    • العلاجات المعتمدة على اليقظة والقبول (Mindfulness and Acceptance-Based Therapies):
      اكتسبت النهج المستندة إلى اليقظة، مثل تقليل الإجهاد القائم على اليقظة (Mindfulness-Based Stress Reduction – MBSR) والعلاج بالتقبل والالتزام (Acceptance and Commitment Therapy – ACT)، شعبية كبيرة في الممارسة السريرية.
      تركز هذه العلاجات على الوعي في اللحظة الحالية وتقبّل الأفكار والمشاعر، مما يعزز المرونة النفسية والرفاهية.
    • الرعاية المستندة إلى الصدمات (Trauma-Informed Care):
      تدلل الرعاية المستندة إلى الصدمات على التأثير الكبير للصدمات النفسية وتسعى إلى إنشاء بيئة علاجية آمنة، تحترم وترعى الأفراد الذين تعرضوا للصدمات النفسية. يُعتبر هذا النهج ذا أهمية خاصة في علاج اضطراب ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder – PTSD) والاضطرابات المرتبطة بالصدمات النفسية الأخرى.

    يُعد علم النفس السريري مجالًا ديناميكيًا ومتعدد الأوجه مكرسًا لفهم وتخفيف الاضطرابات النفسية، والعاطفية، والسلوكية. من جذوره التاريخية إلى ممارساته الحالية، يدمج علم النفس السريري بين البحث العلمي والتدخلات العلاجية لتحسين حياة الأفراد الذين يعانون من مشكلات الصحة النفسية.
    من خلال مواصلة تعزيز فهمنا للعقل البشري وتطوير العلاجات الفعالة، يلعب علماء النفس السريري دورًا حيويًا في تعزيز الصحة النفسية والرفاهية.

    1. Witmer, L. (1896). The establishment of the first psychological clinic. Public Domain. Retrieved from https://www.historyofpsychology.org
    2. Ellis, A., & Harper, R. (1961). A Guide to Rational Living. Public Domain. Retrieved from https://archive.org
    3. Beck, A. T. (1967). Depression: Clinical, Experimental, and Theoretical Aspects. Public Domain. Retrieved from https://archive.org
    4. Rogers, C. R. (1961). On Becoming a Person: A Therapist’s View of Psychotherapy. Public Domain. Retrieved from https://archive.org
    5. Minuchin, S. (1974). Families and Family Therapy. Public Domain. Retrieved from https://archive.org
    6. Bowen, M. (1978). Family Therapy in Clinical Practice. Public Domain. Retrieved from https://archive.org
    7. National Institute of Mental Health (NIMH). Psychological testing and assessment. Public Domain. Retrieved from https://www.nimh.nih.gov
    8. American Psychological Association (APA). Guidelines for Telepsychology. Public Domain. Retrieved from https://www.apa.org

    محمد قحطان

    A medical student, and a scientific-content writer who writes mostly in Arabic, mainly about Psychology, Psychiatry, Philosophy, and the liberal arts
    زر الذهاب إلى الأعلى