نظريات في علم النفس

الإدراك والذاكرة، وعلم النفس المعرفي

علم النفس المعرفي هو فرع من فروع علم النفس يركز على دراسة العمليات العقلية، بما في ذلك كيفية إدراك الناس للأشياء، وكيفية تفكيرهم، وتذكرهم، وتعلمهم. إنه مجال اكتسب شهرة كبيرة على مدار القرن الماضي، مدفوعًا بالسعي لفهم كيفية معالجة العقل البشري للمعلومات.

يدمج علم النفس المعرفي جوانب من علم النفس، وعلوم الأعصاب، واللغويات، والفلسفة لاستكشاف العمليات المعقدة للعقل. تستعرض هذه المقالة تاريخ علم النفس المعرفي، النظريات الأساسية، المنهجيات، وكذلك أهم التطبيقات العملية لهذا المجال.

يمكن تتبع جذور علم النفس المعرفي إلى التساؤلات الفلسفية القديمة حول طبيعة العقل. ومع ذلك فلم يبدأ علم النفس المعرفي بالظهور كعلم منفصل حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كانت الثورة المعرفية في منتصف القرن العشرين لحظة حاسمة في علم النفس، حيث حولت التركيز من السلوكية، التي ركزت على السلوكيات القابلة للملاحظة، إلى دراسة العمليات العقلية الداخلية.

كان لأعمال فيلهلم فونت (Wilhelm Wundt)، الذي أسس أول مختبر علم نفس في عام 1879، تأثير مبكر على علم النفس المعرفي. يُعتبر فونت غالبًا الأب الروحي لعلم النفس التجريبي، وكانت طريقته في الاستبطان، رغم تعرضها للإنتقاد لاحقًا، هي الأساس لدراسة الوعي والعمليات العقلية.

إن ظهور السلوكية (Behaviorism) في أوائل القرن العشرين، بقيادة شخصيات مثل جون واتسون (John B. Watson) وب. ف. سكينر (B.F. Skinner)، غطى مؤقتًا على علم النفس المعرفي. جادل السلوكيون بأن علم النفس يجب أن يدرس فقط السلوكيات القابلة للملاحظة ورفضوا دراسة العقل بطرق غير عملية. ومع ذلك، أدى عدم الرضا عن القيود التي فرضتها السلوكية في النهاية إلى الثورة المعرفية في علم النفس في الخمسينيات والستينيات.

تحدى رواد الثورة المعرفية، مثل الفيلسوف نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) وجورج ميلر (George Miller) وأولريك نيسر (Ulric Neisser)، نظريات السلوكية وأكدوا أهمية فهم العمليات العقلية. يعتبر كتاب علم النفس المعرفي لنيسر(Cognitive Psychology)  في عام 1967 بمثابة إرساء رسمي لعلم النفس المعرفي كفرع مستقل.

يستند علم النفس المعرفي إلى عدة نظريات ومفاهيم رئيسية تشرح كيفية معالجة العقل للمعلومات. توفر هذه النظريات إطارًا لفهم وظائف معرفية مختلفة، بما في ذلك الإدراك، الذاكرة، الانتباه، اللغة، وحل المشكلات.

  1. نظرية معالجة المعلومات (Information Processing Theory)
    تقارن نظرية معالجة المعلومات العقل البشري بالحاسوب، مشيرة إلى أن العمليات المعرفية تشمل إدخالاً، تخزيناً، واسترجاعاً للمعلومات. كانت هذه الاستعارة مهمة في تشكيل الأبحاث حول الذاكرة، الانتباه، واتخاذ القرار.
    إن أبحاث جورج ميلر حول الذاكرة قصيرة المدى، خصوصًا ورقته البحثية الشهيرة “الرقم السحري سبعة زائد أو ناقص اثنين” (The Magical Number Seven, Plus or Minus Two) لعام 1956، أظهرت حدود قدرة الذاكرة البشرية وسلطت الضوء على قدرة العقل على تجزئة المعلومات لتسهيل إستدعائها لاحقاً.
  2. نظرية المخططات (Schema Theory):
    تطرح نظرية المخططات التي قدمها فريدريك بارتلت (Frederic Bartlett) في أوائل القرن العشرين، أن الناس ينظمون المعرفة في أذهانهم بشكل هياكل معرفية تسمى “المخططات” (Schemas). تساعد المخططات الأفراد على تفسير ومعالجة المعلومات الجديدة من خلال توفير إطار لفهم التجارب.
    كانت هذه النظرية مؤثرة في شرح كيفية عمل الذاكرة، خصوصًا في سياق الذاكرة الاستعادية (Reconstructive Memory)، حيث يملأ الأفراد الفجوات في ذكرياتهم بناءً على المخططات الموجودة.
  3. علم النفس الغشطي (Gestalt Psychology):
    تم تطوير علم النفس الغشطي في أوائل القرن العشرين على يد ماكس فرتهايمر (Max Wertheimer) وفولفغانغ كوهلر (Wolfgang Köhler) وكورت كوفكا (Kurt Koffka)، ويؤكد أن العقل يدرك الأشياء كأشكال كاملة بدلاً من مجرد مجموعات من الأجزاء الفردية.
    توضح مبادئ الغشطلت الأساسية، مثل إدراك الشكل والخلفية (Figure-Ground Perception)، القرب (Proximity)، التشابه (Similarity)، والإغلاق (Closure)، كيف ينظم الناس المعلومات الحسية إلى أنماط ذات معنى. كانت ولا تزال هذه المبادئ أساسية في فهم الإدراك وحل المشكلات في علم النفس المعرفي.
  4. نظرية العملية المزدوجة (Dual-Process Theory):
    تصف نظرية العملية المزدوجة، التي اقترحها دانيال كانيمان (Daniel Kahneman) وأموس تفيرسكي (Amos Tversky)، نوعين مختلفين من التفكير: النظام 1 (System 1)، وهو سريع، تلقائي، وبديهي، والنظام 2 (System 2)، وهو بطيء، متأمل، وتحليلي.
    كانت هذه النظرية محورية في شرح كيفية اتخاذ الناس للقرارات وحل المشكلات، خصوصًا في المواقف التي تنطوي على عدم اليقين أو المخاطر.

يستخدم علم النفس المعرفي مجموعة متنوعة من مناهج البحث لدراسة العمليات العقلية. تتراوح هذه المناهج من تقنيات التجارب إلى دراسات الملاحظة، وكل منها يوفر رؤى فريدة حول كيفية عمل العقل.

  • البحث التجريبي (Experimental Research):
    يعد البحث التجريبي حجر الزاوية في علم النفس المعرفي. ويجرى كما يوحي إسمه، حيث يستخدم الباحثون تجارب محكمة للتحكم بالمتغيرات وملاحظة تأثيرها على العمليات المعرفية.
    على سبيل المثال، قد تتضمن تجارب الذاكرة تقديم قوائم من الكلمات للمشاركين واختبار تذكرهم لها بعد فترات زمنية مختلفة لفهم آليات تخزين واسترجاع الذاكرة.
  • علم الأعصاب المعرفي (Cognitive Neuroscience):
    يجمع علم الأعصاب المعرفي بين علم النفس المعرفي وعلوم الأعصاب لدراسة الآليات العصبية التي تقوم عليها العمليات العقلية. تساعد تقنيات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) وتخطيط كهربية الدماغ (EEG)  الباحثين بمراقبة نشاط الدماغ أثناء أداء المهام المعرفية. أدى هذا النهج متعدد التخصصات إلى تحقيق تقدم كبير في فهم الأساس العصبي للإدراك والانتباه واللغة والذاكرة.
  • دراسة حالة منفردة (Case Studies):
    تتضمن دراسات الحالة فحصًا مفصلاً للأفراد الذين يتمتعون بقدرات معرفية فريدة أو يعانون من إعاقات. هناك الآن دراسات مشهورة مثل حالة المريض “هـ.م.” (H.M.) (هنري مولايسون)، الذي عانى من فقدان ذاكرة شديد بعد جراحة الدماغ، وغيرها من الأمثلة التي تتم دراستها بشكل منفرد، والتي قدمت رؤى قيمة حول بنية ووظيفة الذاكرة.
  • النمذجة المعرفية (Cognitive Modeling):
    تعني النمذجة المعرفية إنشاء محاكيات حاسوبية للعمليات المعرفية لاختبار النظريات والتنبؤات. يمكن لهذه النماذج محاكاة عمليات التفكير البشري، مثل اتخاذ القرارات أو حل المشكلات، وتستخدم لاستكشاف كيفية عمل الوظائف المعرفية في ظل ظروف مختلفة.

لقد أنتج علم النفس المعرفي مجموعة واسعة من التطبيقات في مجالات مختلفة، من التعليم والذكاء الاصطناعي إلى علم النفس السريري والتفاعل بين الإنسان والحاسوب.

  1. التعليم (Education):
    أثر علم النفس المعرفي بشكل كبير على الممارسات التعليمية من خلال توفير رؤى حول كيفية تعلم الناس واحتفاظهم بالمعلومات. تقنيات مثل التكرار المتباعد (Spaced Repetition)، التعلم النشط (Active Learning)، والاستراتيجيات ما وراء المعرفية (Metacognitive Strategies) كلها تعتمد على مبادئ معرفية وتستخدم على نطاق واسع لتحسين نتائج التعليم والتعلم.
  2. الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence):
    يعتمد بحث الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على علم النفس المعرفي، لا سيما في مجالات الإدراك ومعالجة اللغة وحل المشكلات.
    تستند نماذج التفكير البشري المعرفية إلى تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكنها محاكاة الذكاء البشري، من الأمثلة على ذلك إستخدام خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing).في بناء الذكاء الإصطناعي.
  3. علم النفس السريري (Clinical Psychology):
    لقد لعب علم النفس المعرفي دورًا أساسياً في علم النفس السريري، لا سيما في تطوير العلاج السلوكي المعرفي
    (Cognitive-Behavioral Therapy – CBT).
     يعتمد العلاج السلوكي المعرفي على فكرة أن الأفكار غير القادرة على التكيف تسهم في حصول ضيق نفسي وعاطفي ومشكلات السلوكية. يهدف العلاج السلوكي المعرفي إلى تخفيف الأعراض وتحسين الرفاهية النفسية من خلال مساعدة المرضى في تحديد وتغيير هذه الأنماط الفكرية.
  4. التفاعل بين الإنسان والحاسوب (Human-Computer Interaction – HCI):
    يركز التفاعل بين الإنسان والحاسوب على تصميم واجهات مستخدم سهلة الاستخدام تتوافق بإنسيابية مع العمليات العقلية البشرية.
    يوفر علم النفس المعرفي رؤى هامة حول كيفية إدراك الإنسان للمعلومات الخارجية المعروضة أمامه والتفاعل معها، وهذا له دور في تصميم البرمجيات والمواقع الإلكترونية والأدوات الرقمية الأخرى، ولم يكن موقع ألفس من هذه الناحية إستثنائاً.

يُعد علم النفس المعرفي مجالًا غنيًا وديناميكيًا تَقدّم بشكل كبير في فهم كيفية معالجة العقل البشري للمعلومات. يواصل علم النفس المعرفي من جذوره التاريخية إلى تطبيقاته المعاصرة تشكيل فهمنا للإدراك، الذاكرة، الانتباه، اللغة، وحل المشكلات. من خلال دمج رؤى من علم النفس، وعلوم الأعصاب، والذكاء الاصطناعي، يبقى علم النفس المعرفي في طليعة الطرق العلمية التي بواسطتها يمككنا استكشاف أسرار العقل البشري.

  1. Wundt, W. (1879). Principles of Physiological Psychology. Public Domain. Retrieved from https://archive.org
  2. Miller, G. A. (1956). The Magical Number Seven, Plus or Minus Two: Some Limits on Our Capacity for Processing Information. Public Domain. Retrieved from https://archive.org
  3. Bartlett, F. C. (1932). Remembering: A Study in Experimental and Social Psychology. Public Domain. Retrieved from https://archive.org
  4. Wertheimer, M. (1923). Laws of Organization in Perceptual Forms. Public Domain. Retrieved from https://archive.org
  5. Kahneman, D., & Tversky, A. (1979). Prospect Theory: An Analysis of Decision under Risk. Public Domain. Retrieved from https://archive.org
  6. Neisser, U. (1967). Cognitive Psychology. Public Domain. Retrieved from https://archive.org

محمد قحطان

A medical student, and a scientific-content writer who writes mostly in Arabic, mainly about Psychology, Psychiatry, Philosophy, and the liberal arts
زر الذهاب إلى الأعلى