الصحة النفسية

العلاقة بين الكافايين والحالة النفسية والمزاج، والحالة الإبداعية المرتبطة بإستهلاكه

Caffeine and Creativity

الكافيين هو منشط طبيعي يوجد في القهوة والشاي بأنواعه والعديد من النباتات الأخرى، وهو واحد من أكثر المواد ذات التأثيرات النفسية التي يتم إستهلاكها في العالم. كان تأثيره على الحالة النفسية موضوعًا للعديد من الأبحاث في العشرين سنة الأخيرة.

نستكشف في هذه المقالة العلاقة بين الكافايين والجوانب المختلفة لعلم النفس والأداء النفسي، بما في ذلك الأداء المعرفي، وتنظيم المزاج، والإبداع، مع وصف حلول لبعض المشاكل الشائعة المرتبطة بإستهلاك الكافايين.

الكافيين معروف بقدرته على تعزيز اليقظة والانتباه. أظهرت الدراسات أن الكافيين يحسن من سرعة رد الفعل ويعزز الانتباه المستمر ويزين من سرعة معالجة المعلومات، خاصة عند الأفراد الذين يعانون من نقص النوم -وبالتالي نقصاً في سرعة ردود الفعل ومعالجة المعلومات- أو الإرهاق.

يفعل الكافايين كل هذا بشكل رئيسي بسبب طبيعة عمله كمضاد لمستقبلات الأدينوسين .(adenosine receptors) الأدينوسين (adenosine) هو مادة كيميائية عصبية توجد في الدماغ وتحفز النوم والاسترخاء عن طريق تثبيط النشاط العصبي.

الكافايين يعطل هذه المستقبلات (أو، بعبارة أدق، يأتي ويسد مكان الأدينوسين في هذه المستقبلات)، مما يؤدي إلى زيادة النشاط العصبي (إن ما يحصل على مستوى المستقبلات الكيميائية في الدماغ في الواقع هو أكثر ما يكون تأجيلاً للنعاس، و”تنشيط” بشكل أقل مما يتم فهمه في العادة).

يسبب الكافايين أيضاً إفرازاً للنواقل العصبية مثل الدوبامين (dopamine) والنورإبينفرين (norepinephrine)، مما يعزز بدوره الاستيقاظ والانتباه.

أحد الدراسات البارزة في هذا المجال، والتي أجراها سميث وآخرون (Smith et al., 1994)، وجدت أن استهلاك الكافايين يحسن بشكل كبير أداء المشاركين في المهام التي تتطلب انتباهاً مستمراً ومعالجة سريعة للمعلومات. كما أبرزت الدراسة دور الكافيين في تحسين الأداء في المهام التي تتضمن الذاكرة التشغيلية (Working memory).

تأثير الكافيين على المزاج هو مجال آخر يحظى بكثير من الإهتمام. يرتبط استهلاك الكافيين المعتدل بمزاج أفضل، وزيادة في المشاعر الإيجابية و”السعادة”. يرجع ذلك جزئيًا إلى عمل الكافايين على النظام الدوباميني (dopaminergic system)، الذي يلعب دورًا حيويًا في مسارات المكافأة في الدماغ (Reward circuits).

ومع البساطة اللتي يبدو عليهاً هذا التأثير؛ فإن العلاقة بين الكافيين والمزاج أكثر تعقيداً. في حين أن الجرعات المنخفضة إلى المتوسطة من الكافيين عادة ما تنتج تأثيرات إيجابية، فإن الجرعات العالية يمكن أن تؤدي إلى القلق، والارتعاش، والانزعاج، وعند عدد غير قليل، خفقان وسرعة محسوسة في دقات القلب. يُبرز هذا التأثير المتناقض أهمية الاعتدال في استهلاك الكافايين لتحقيق التأثيرات المزاجية المرغوبة.

تؤكد المراجعات البحثية اللاحقة عن الموضوع وجود تباين فردي كبير في كيفية الإستجابة لإستهلاك الكافيين بين الأفراد المختلفين. اقترحت إحداها أن العوامل الوراثية قد تلعب دورًا في تحديد حساسية الفرد للكافيين.

يعد مفهوم “الحالة الإبداعية” (نسميها The Creative state) الناتجة عن استهلاك الكافيين مفهوماً مثيراً للاهتمام وقد تم استكشافه في العديد من الدراسات. يتضمن الإبداع كل من التفكير المتشعب (divergent thinking) (توليد حلول متعددة لمشكلة، أو التنقل بين أفكار مختلفة بوقت قصير) والتفكير المتقارب (convergent thinking) (إيجاد أفضل حل لمشكلة).

إن قدرة الكافيين على تعزيز المرونة المعرفية وتقليل التعب والإجهاد العقلي يمكن أن تسهل هذه العمليات، ويعزز بالتالي الإنتاج الإبداعي (Creative production).

دراسة أجراها مدنيك وآخرون (Mednick et al., 2008) استكشفت تأثيرات الكافيين على الإبداع. وجد الباحثون أن استهلاك الكافيين يحسن أداء المشاركين في المهام التي تتطلب التفكير المتشعب، مما يشير إلى أن الكافيين قد يعزز أنواع معينة من التفكير الإبداعي، ربما دون غيرها! حيث أنهم لاحظوا أيضًا أن تأثيرات الكافايين المنشط قد لا تكون مفيدة بنفس القدر للمهام التي تتطلب التفكير العميق والتأمل.

*كأننا نفهم من هذا أن إستهلاك الشاي والقهوة أو اي منتج يحتوي الكافايين، لا يزيد بالضبط قدرة الدماغ ككل، وإنما له وظيفة تنشيطية للجهاز العصبي بشكل خاص، ويعزز جانب النشاط دون غيره. دعنا نفهم ذلك أكثر بإستخدام معادلة رياضية بسيطة:

 Caffeine + Brain = a faster Brain (معادلة صحيحة).
Caffeine + Brain = 2 Brains  (معادلة خاطئة، وسوء فهم شائع لكيفية تأثيره على الدماغ).

*(2 Brains) هنا تعني زيادة في عمل الدماغ ككل، وهذا وكما وضحنا، غير دقيق.

القهوة هي ربما المصدر الأكثر شهرة للكافايين في العالم، يستهلكها الملايين يوميًا لتأثيراتها المحفزة. العديد من الدراسات استكشفت تأثير القهوة على الأداء الإبداعي. دراسة بارزة أجراها مدنيك وآخرون (Mednick et al., 2008) وجدت أن استهلاك الكافيين المعتدل يحسن أداء المشاركين في المهام التي تتطلب التفكير المتشعب (Divergent thinking). هذا يشير إلى أن القهوة يمكن أن تعزز توليد الأفكار والحلول الجديدة، وهو جانب أساسي من الإبداع.

علاوة على ذلك، فإن التأثيرات المحفزة للقهوة يمكن أن تساعد الأفراد على تجاوز العوائق العقلية والاستمرار في الجهد الإبداعي لفترة طويلة. يذهب بعض من العلماء ممن بحثوا في الموضوع إلى أن حتى السياق الإجتماعي لإستهلاك القهوة وما يسمى بإستراحة القهوة (Coffee break)  يلعب دوراً، وإن كان غير مباشر، في تكون أفكار جديدة والإمداد بطاقة اكبر للعمل والتركيز.

الشاي، وهو مشروب آخر يحتوي على الكافايين ويستهلك على نطاق واسع، يساهم أيضًا في الحالة الإبداعية ولكن من خلال آلية مختلفة قليلاً. بالإضافة إلى الكافيين، يحتوي الشاي على حمض أميني يسمى الثيانين (L-theanine)، وله خصائص مهدئة. مزيج الكافيين والثيانين في الشاي ينتج حالة متوازنة من اليقظة والاسترخاء، والتي يمكن أن تكون مفيدة بشكل خاص للتفكير الإبداعي.

دراسة أجراها إينوثر ومارتنز (Einöther and Martens, 2013) أظهرت أن مزيج الكافيين والثيانين يحسن الدقة ومهام تبديل الانتباه بشكل أفضل من الكافايين وحده. هذا التأثير التآزري يساعد في الحفاظ على حالة من التركيز الهادئ، مما يسمح بالجهد الإبداعي المستمر دون حالة الإضطراب التي تصاحب أحيانًا استهلاك الكافيين العالي، من القهوة خصوصاً. يمكن أن يكون هذا التوازن مفيدًا بشكل خاص في المجالات الإبداعية التي تتطلب تركيزاً مكثفاً وعقلاً مسترخياً.

الإبداع لا يتعلق فقط بالعمليات المعرفية؛ بل يشمل أيضًا تفاعلات كيميائية عصبية معقدة. الدوبامين (dopamine)، وهو ناقل عصبي مرتبط بنظام المكافأة في الدماغ، يلعب دورًا حاسمًا في الإبداع. قدرة الكافيين على زيادة مستويات الدوبامين يمكن أن تعزز المزاج والتحفيز، وهما أساسيان للعمل الإبداعي.

يرتبط النشاط الدوباميني المتزايد بمستويات أعلى من اليقظة والتفاعل، مما يمكن أن يسهل حالة التدفق (flow state) – وهي حالة عقلية منتجة وإبداعية للغاية.

علاوة على ذلك، فإن تأثير الكافيين على القشرة الجبهية الأمامية (prefrontal cortex)، وهي المنطقة في الدماغ المسؤولة عن الوظائف المعرفية العليا بما في ذلك التخطيط وصنع القرار والتفكير الإبداعي، يبرز دوره في الإبداع. يمكن أن يؤدي النشاط المعزز في القشرة الجبهية الأمامية إلى تحسين توليد الأفكار والقدرة على حل المشكلات، وهي مكونات حاسمة في العملية الإبداعية.

إن فهم العلاقة بين الكافيين والإبداع له فوائد عملية للأفراد الذين يسعون لتعزيز أدائهم الإبداعي. يمكن أن يوفر استهلاك الكافيين المعتدل، عن طريق تناول القهوة أو الشاي، دفعة من التركيز والأفكار للمهام الإبداعية. ومع ذلك، فإن من الضروري تحقيق التوازن في استهلاك الكافيين لتجنب الآثار الجانبية السلبية مثل القلق واضطرابات النوم، التي يمكن أن تسبب نتائج عكسية على المدى المتوسط والطويل.

كذلك فإن من الممكن لك أن تجرب مصادر مختلفة من الكافيين معاً، مثل خلط القهوة مع مكملات الثيانين (L-theanine)، أو إعداد كوب من القوة والشاي معاً، لإيجاد التوازن الأمثل الذي يناسب إحتياجاتك الإبداعية.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يزيد توقيت استهلاك الكافيين بشكل ستراتيجي، مثل تناوله خلال فترات الطاقة المنخفضة أو قبل الجلسات الإبداعية المكثفة، من فوائده.

إن جودة وكمية النوم هي عامل أساسي يؤثر على الصحة النفسية والمزاج بشكل مباشر. إن هذا التأثير المباشر يتم عن طريق زيادة اليقظة وتقليل الشعور بالتعب، وهذا يمكن أن يسبب إختلالاً في أنماط النوم، والنتيجة حالة من الأرق، أو تقليل جودة النوم على الأقل، هذا إذا تم استهلاكه قريبًا من وقت النوم (ست لثمان ساعات قبل هو الرقم المثالي لآخر مرة يتم فيها إستهلاك أي من المنبهات، بشكل عام).

يمكن أن تسهم اضطرابات النوم المزمنة، بدورها، إضافة إلى الأرق، في فرص حصول اضطرابات المزاج مثل الاكتئاب والقلق.

يعتبر الكافيين عمومًا آمنًا – بل وحتى مفيداً-  للاستهلاك بكميات معتدلة، لكن هناك إمكانية لأن يصبح الشخص معتمداً على هذه المنبهات، وبالتالي حصول أعراض الإنسحاب عند عدم إستهلاكها.

يمكن أن يؤدي الاستهلاك المنتظم للكافيين إلى الاعتماد الجسدي، الذي يتميز بالحاجة إلى جرعات أعلى لتحقيق نفس التأثير. تشمل اعراض الانسحاب الشائعة الصداع، والتعب، والانزعاج، والمزاج المكتئب.

يشمل دليل التشخيص والإحصاء للاضطرابات النفسية (DSM-5) لجمعية الطب النفسي الأمريكية انسحاب الكافيين كحالة نفسية سريرية معترف بها، مما يبرز أهمية هذه المسألة. لذلك فإن تنظيم استهلاك الكافيين أمر ضروري لتجنب الاعتماد والانسحاب، ولأجل الحفاظ على حالة نفسية متوازنة.

العلاقة بين الكافيين والحالة النفسية متعددة الأوجه، تشمل تحسينات في الأداء المعرفي والمزاج، وتعزيزات محتملة في الإبداع، واعتبارات للنوم والإدمان. في حين أن الكافيين يمكن أن يكون أداة قيمة لتعزيز اليقظة والأداء العقلي، فمن الضروري استهلاكه بوعي لتجنب التأثيرات السلبية على الصحة النفسية.

من خلال الاستفادة من فوائد الكافيين مع الوعي بالسلبيات المحتملة، يمكن للأفراد تحسين حالتهم النفسية والاستفادة من التأثيرات الإيجابية لهذه المادة المستهلكة على نطاق واسع.

محمد قحطان

A medical student, and a scientific-content writer who writes mostly in Arabic, mainly about Psychology, Psychiatry, Philosophy, and the liberal arts
زر الذهاب إلى الأعلى